الأربعاء، 16 نوفمبر 2016

التعدين في دارفور.. الأساطير والحقائق

ودّعت ولاية جنوب دارفور (دحدوح) ورحلته إلى الخرطوم وأنهت مغامراته الجريئة، ووضعت حداً للاستفزاز الذي وصل إلى اقتحام أتباعه لمبنى المحكمة بنيالا قبل ثلاث سنوات واقتلاع (دحدوح) هذا من أمام القاضي.
لم تكتف جماعة (دحدوح) بتخليص الزعيم من المحكمة بعد أن اقتحموها بالعربات المسلحة، بل مضوا بالزعيم إلى أحد أحياء نيالا.
وأقاموا احتفالاً ضخماً بهذه المناسبة، أطلقوا فيه الأعيرة النارية في الهواء، ابتهاجاً وفرحاً، حتى سمعت نيالا كلها وعرفت أن الزعيم (معه رجال).
انتهت مغامرات دحدوح الذي يعتبر من أشهر زعماء عصابات النهب المسلح وقُبض عليه في نيالا، وتم نقله إلى الخرطوم جواً.

ولكن قبل أن تقلع طائرة "دحدوح" كانت طائرة وفد وزارة المعادن قد حطت رحالها في نيالا وفي جوفها الوزير محمد محمد صادق الكاروري.
وبمعية الوزير مدير الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية د.أبوفاطمة، ومدير الشركة السودانية للموارد المعدنية هشام توفيق، ومديري الإدارات بوزارة المعادن ووفد إعلامي كبير.
وكان استقبال الكاروري ووداع (دحدوح) هو الإشارة إلى أن دارفور أصبحت على موعد مع الانتقال من بؤرة للتوتر والنهب والسلب والانفلات الأمني، إلى مركز جغرافي تشع منه المعادن الثمينة والنادرة والنفيسة مثل الذهب واليورانيوم، والكبريت وغيرها من المعادن التي دلت عمليات المسح والتخريط على أن لها شواهد في دارفور.
قبل نيالا كانت مدينة الجنينة قد فتحت ذراعيها لوفد وزارة المعادن، بيد أن الجنينة شهدت الحدث الأبرز وهو افتتاح مكتب لهيئة الأبحاث الجيولوجية أصبح نافذة لولاية غرب دارفور على المستقبل، وعينها الفاحصة على مكنونات الأرض من الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة .
ونظراً لوجود نزعة متفشية في دارفور تقود في كثير من الأحيان إلى النزاع حول الأرض والحواكير.
فقد جرى تذكير الدارفوريين أن النشاط التعديني هو نشاط مؤقت يبلغ عشر سنوات أو عشرين، وقد يصل إلى أربعين سنة.
وبعدها لا يتمسك المنقبون بأرض ولا يزعمون ملكيتها، وعليه فلا خوف من توطن المعدّنين والشركات وبقائهم مدى الحياة في أرض دارفور.
الكاروري أشار إلى أن المعادن من شأنها أن تغير الأوضاع كثيراً نحو الأفضل، وذلك على مستوى الأفراد والأسر، وعلى مستوى الحكومة الولائية والاتحادية وكشف للمسؤولين في ولايتي غرب وجنوب دارفور عن أن هناك شواهد تعدينية في الولايتين.
الكاروري أورد أرقاماً وإحصائيات من أمريكا وألمانيا والبرازيل ودول الاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا عقد فيها مقارنة بين مساهمة الزراعة في الناتج القومي الإجمالي بتلك الدول، مقارنة بمساهمة المعادن.
وقال إنه يورد هذه الأرقام لتجيب هي بنفسها عن أيهما أكثر مساهمة في الناتج القومي الإجمالي: المعادن أم الزراعة؟.
ورغم إنني كنت أتمنى ألا يدخل الوزير في نفق هذه المقارنة، إلا إنني ونقلاً عنه أورد الأرقام التالية حول مساهمة الزراعة في الناتج القومي الإجمالي:
(الاتحاد الأوروبي2%) (أمريكا9%) (ألمانيا9%) (البرازيل8%) فيما يستأثر القطاع الصناعي- ومنه التعدين- بالمساهمة بنسبة تتراوح بين 35% إلى ما يزيد عن الـ50% في هذه الدول.
إن الشروع في فتح فرص الاستثمار التعديني في دارفور، خطوة بالغة الأهمية، رغم أنها تأخرت بعض الشيء.
ومن المدهش أن بعض الباحثين يبررون الحرب التي اندلعت في الإقليم العام 2003 بأنها تعود إلى توافر دارفور على معادن نفيسة وغالية مثل اليورانيوم، ورغم ذلك تتباطأ حركة التنقيب عن الإقدام.
الوضع الأمني في دارفور تحسن كثيراً مقارنة بالأعوام الماضية، ومن المعروف أن النشاط التعديني يمكن أن يتم حتى ولو لم يتم بسط الأمن بصورة مطلقة.
ومن كان يشك في ذلك فيمكن إحالته إلى استخراج البترول السوداني من أعماق أرض الجنوب وفي ظل اندلاع الحرب مع حركة قرنق.
ومن أراد مثالاً من الخارج فيكفيه تصدير نفط العراق من شماله وهي منطقة مليئة بالدواعش والبشمركة والفيالق.
انفتاح دارفور على حركة التعدين من شأنه أن يصرف سكان هذه المنطقة الواعدة عن القتال من أجل لا شيء.
ومن الصراعات القبلية المهلكة، إلى الالتفات نحو تحسين فرص الحياة بالنسبة للشباب هناك، وزيادة الدخل.
واحتراف المهن والصنائع سواء مهنة التعدين نفسها، أو المهن التي تتعلق بها، ووفقاً لإحصائية وزارة المعادن فإن هناك حوالي 27 مهنة مرتبطة بالتعدين .
حركة التعدين في غرب وجنوب دارفور من شأنها أن تحول المنطقة نفسها إلى مساهم إيجابي في الخزينة العامة، بدلاً من الوضع الحالي المقلوب.
الذي قوامه استنزاف الدولة في دفع الديات وعقد مؤتمرات الصلح، والدفع بالقوات النظامية، والإسراف في الصرف على هياكل الحكم وعلى الدستوريين الولائيين.
صحيح أن أهل دارفور سمعوا عن الشواهد القوية للمعادن النادرة في حفرة النحاس، وعن معادن أخرى في مناطق متناثرة.
ولكن آن لهم أن يتذوقوا حلاوة هذه المعادن، وأن يروها تعزز فرص العيش الكريم والحياة الميسورة، بدلاً من أن تتحول إلى مصدر للصراع، ومادة لإثارة المشاكل والحروب.
لو تحققت هذه الأماني، فإن انقلاباً سيحدث، لا في حياة الدارفوريين فحسب، ولكن في تناول الآلة الإعلامية للوضع في دارفور.
فمحتوى الأخبار سيأخذ منحى إيجابياً، والتحقيقات الصحفية ستتجه بعيداً عن المآسي لأنها ستتلاشى أو تتضاءل.
انفتاح دارفور على التعدين لا يلغي خصوصيتها كمنطقة زراعية رعوية.
على عكس من ذلك فإن التعدين سيعزز هذه الخصيصة، بل ويعمل على تطويرها، عبر تحسين السلالات واستزراع الأصناف الجيدة.
لكن كل هذه الصورة الوردية ستبقى في هذا اللون، إذا لم ترتق الولايات بتشريعاتها إلى مستوى الحدث وتتجنب فرض الرسوم والضرائب والجبايات على المستثمرين.
أو إذا تهاونت في فرض الأمن والاستقرار، وتلاطفت مع المجموعات المتفلتة، أو ظن بعض الناس هناك أنه لا حق لأحد في أن يستثمر في هذه الأرض.
البنية التحتية هي الأخرى تهم المستثمرين والمعدّنين، والواقع يشير إلى أن هناك تحسناً كبيراً طرأ على شبكة الطرق الرابطة لدارفور بالمركز.
وأمكن للمواطن أن يسافر من الخرطوم إلى الفاشر وبالعكس في يوم دون ليلة، لكن تبقت شبكة الطرق داخل إقليم دارفور نفسه، فهي بحاجة إلى المزيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق